.- فضل العلماء وعلو شأنهم
ومما ورد في السنّة في بيان فضل العلماء وعلوّ شأنهم؛ ما رواه الشيخان أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَىَ وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ. وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ. فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعَوْا. وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَىَ، إِنّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً. وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» ففي هذا الحديث العظيم تشبيهان بليغان:
التشبيه الأول: تشبيه العلم والهدى الذي جاء به الرسول ( بالغيث؛ أي بالمطر، بجامع أن كُلاًّ منهما تحصل به الحياة وتنشأ عنه المنافع:
( فالماء تحصل به حياة الأرض كما قال جل وعلا عن الغيث(فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([فاطر:9]، وقال تعالى(وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([البقرة:164].
( كما أن العلم والهدى تحصل به حياة الروح كما قال الله عز وجل(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا([الأنعام:122]، وقال تعالى(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ([الأنفال:24]. فهذا هو التشبيه الأول.
التشبيه الثاني: تشبيه القلوب بالأراضي؛ بجامع أن كُلاًّ منهما محل للتَّقَبُّل: فالأرض ينزل عليها المطر، كما أن القلوب يقع عليها العلم، فهذا محل للعلم، وهذا محل للماء.
ثم قسَّم النبي صلى الله عليه و سلم ( الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظ وفهم العلم الذي أرسل به النبي صلى الله عليه و سلم
فالقسم الأول:من جمع بين الفضيلتين؛ بين الحفظ للشريعة الإسلامية والفهم فيها، فهو يحفظ نصوصها؛ يحفظ القرآن والسنة، وهو في الوقت نفسه يفهم مراد الشارع من هذه النصوص، فيُوفَّق لموافقة الصواب، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث بقوله(فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ)، وقوله (قَبِلَتِ الْمَاءَ) هذا كناية عن الحفظ، (فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ) وهذا كناية عن الفهم، وعن النفع فهو منتفع في نفسه نافع غيره.
القسم الثاني من الناس: من حصل على فضيلة من الفضيلتين، وهي الحفظ فقط، رزقه الله تعالى حافظة قوية، فحفظ القرآن والسنة، لكن لم يؤتَ فهما لمعانيها، ولاستنباط الأحكام منها، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث في قوله (وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ).
فهذان القسمان هُمُ السعداء، وهم أرفع درجة وأعلى قدْرا، و(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ((1) فلهم الفضل الكبير على الناس بما حفظوا عليهم من دينهم، وبما استنبطوا من الأحكام الشرعية ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم، فكانوا كما قال الشاعر:
متى يمت عالم منها يمت طرف
وإنْ أبى عاد في أكنافها التَّلف
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس.
القسم الثالث: من حُرم الفضيلتين؛ فلم يُعط حفظا ولم يُعط أيضا فهما، فهُم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء الذين رضعوا ثُدِيَّ الجهل، ورضوا به، فهو وصف الذين لا يوصفون بسواه، حتى ولو تتوجوا بالزَّبَرْجَدِ ولبسوا أنعم اللباس، وركبوا أهنى المراكب.
هذه هي الأقسام التي ذكرها الحديث، ثم بعد ذلك بيَّن أحكامها.
فأما القسمان الأول والثاني فالإشارة إلى حُكمهما في قوله (فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ) أي علم في نفسه أولا، ثم أبدى علمه إلى الناس فانتفعوا به في تبيين الحلال من الحرام.
أما القسم الثالث فالإشارة إلى حكمة في قوله (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)، فظهر بهذا التشبيه في هذا الحديث فضل العلماء ومكانتهم وعموم نفعهم.
حقوق العلماء علينا
حقوق العلماء منها ما يُطالب به تلامذتهم، ومنها ما يطالب به عامة الناس، ونحن هنا نذكر بعض الحقوق المشتركة بين تلامذتهم وبين العامة.
• فمن حقوقهم علينا توقيرهم، واحترامهم، والتواضع لهم، وخفض الجناح لهم، يقول طاووس رحمه الله تعالى: من السنة أن يوقَّر العالم. وقد ثبت في سنن أبي داوود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال «إِنّ مِنْ إِجْلاَلِ الله إِكْرَامَ ذِي الشّيْبَةِ المُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ, وَإِكْرَامَ ذِي السّلْطَانِ المُقْسِطِ ». وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه ”الجامع“ تحت باب تعظيم المحدِّث وتجليده ذكر أثرا عن كعب الأنصار لا بأس بإرادة من باب الاستئناس به يقول كعب: ثلاثة نجد في الكتاب يحق علينا أن نُكرِمهم، وأنْ نشرِّفهم، وأن نوسِّع عليهم في المجالس: ذو السن، وذو السلطان بسلطانه، والحامل للكتاب. ومن هذا الباب قصة عبد الله بن عباس المشهور عندما أخذ بركاب بن ثابت فقال لزيد: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال: ابن عباس إنا هكذا نصنع بالعلماء. أو هكذا يفعل بالعلماء. وقد عُوتب الشافعي رحمه الله على تواضعه للعلماء فقال:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونهـا و لن تكرم النفس التي لا تهينهـا
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أيضا: أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. فحق العالم علينا أن نتواضع له وأن نجله ونقدره وأن نحترمه.
• ومن حقوق العلماء أيضا ولعله من أعظم الحقوق الدعاء لهم والاستغفار لهم، وقد تقدم الحديث في قوله (وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَاواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ) وثبت في سنن أبي داود(3) أو لعله الترمذي عن أبي أمامة ( أن النبي ( قال«إِنّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ الأرض حَتّى النّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتّى الْحُوتَ لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ» ومعنى (يُصَلّونَ) يعني يدعون، وثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال«وَمَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ, فإِنْ لَم تَجِدُوا ما تُكَافِئُوه بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ» وأي معروف أعظم علينا في هذه الدنيا من معروف العالم؛ الذي يدلنا على ما يسعدنا في الدين والدنيا.
• ومن حقوقهم أيضا ما جاء عن على ( أنه قال -كما ذكره ابن جماعة وقبله ابن عبد البر- أنه قال: من حق العالم عليك أن تُسَلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك إليه، ولا تغمز بعينك، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابَنَّ عنده أحد، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم لخدمته، ولا تسارّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا الكسل، وتشبع من طول صحبته؛ فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء. ولقد جمع ( في هذه الوصية ما فيه الكفاية.
فهذه جملة من حقوق العلماء علينا، وهي كثيرة، نسأل الله أن يوفقنا للعمل بها، فمتى ما عملنا بها مخلصين لله تعالى فقد قمنا بواجبنا تجاههم، وهيأْنا أيضا لهم الجو لإعطائنا مزيدا من علمهم ومعارفهم، ولذلك يقول ابن جُريْج: لم استخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به. فحسن المعاملة مع العالم تشرح صدره، فينعكس ذلك على إعطائه، فيعطى عطاء جيدا مثمرا، كما أن سوء معاملته أو عدم التأدب معه يؤثر على إخراجه للمعلومات، لذلك يقول الزهري: كان سلمةُ يماري ابن عباس فحرم بذلك علما كثيرا.
ـــــــــــــــــ
(1) الحديد:21، الجمعة:4.
(3) الترمذي كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة. ولم أجده في سنن أبي داوود.
.- فضل العلماء وعلو شأنهم
ومما ورد في السنّة في بيان فضل العلماء وعلوّ شأنهم؛ ما رواه الشيخان أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَىَ وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ. وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ. فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعَوْا. وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَىَ، إِنّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً. وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» ففي هذا الحديث العظيم تشبيهان بليغان:
التشبيه الأول: تشبيه العلم والهدى الذي جاء به الرسول ( بالغيث؛ أي بالمطر، بجامع أن كُلاًّ منهما تحصل به الحياة وتنشأ عنه المنافع:
( فالماء تحصل به حياة الأرض كما قال جل وعلا عن الغيث(فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([فاطر:9]، وقال تعالى(وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([البقرة:164].
( كما أن العلم والهدى تحصل به حياة الروح كما قال الله عز وجل(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا([الأنعام:122]، وقال تعالى(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ([الأنفال:24]. فهذا هو التشبيه الأول.
التشبيه الثاني: تشبيه القلوب بالأراضي؛ بجامع أن كُلاًّ منهما محل للتَّقَبُّل: فالأرض ينزل عليها المطر، كما أن القلوب يقع عليها العلم، فهذا محل للعلم، وهذا محل للماء.
ثم قسَّم النبي صلى الله عليه و سلم ( الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظ وفهم العلم الذي أرسل به النبي صلى الله عليه و سلم
فالقسم الأول:من جمع بين الفضيلتين؛ بين الحفظ للشريعة الإسلامية والفهم فيها، فهو يحفظ نصوصها؛ يحفظ القرآن والسنة، وهو في الوقت نفسه يفهم مراد الشارع من هذه النصوص، فيُوفَّق لموافقة الصواب، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث بقوله(فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ)، وقوله (قَبِلَتِ الْمَاءَ) هذا كناية عن الحفظ، (فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ) وهذا كناية عن الفهم، وعن النفع فهو منتفع في نفسه نافع غيره.
القسم الثاني من الناس: من حصل على فضيلة من الفضيلتين، وهي الحفظ فقط، رزقه الله تعالى حافظة قوية، فحفظ القرآن والسنة، لكن لم يؤتَ فهما لمعانيها، ولاستنباط الأحكام منها، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث في قوله (وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ).
فهذان القسمان هُمُ السعداء، وهم أرفع درجة وأعلى قدْرا، و(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ((1) فلهم الفضل الكبير على الناس بما حفظوا عليهم من دينهم، وبما استنبطوا من الأحكام الشرعية ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم، فكانوا كما قال الشاعر:
متى يمت عالم منها يمت طرف
وإنْ أبى عاد في أكنافها التَّلف
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس.
القسم الثالث: من حُرم الفضيلتين؛ فلم يُعط حفظا ولم يُعط أيضا فهما، فهُم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء الذين رضعوا ثُدِيَّ الجهل، ورضوا به، فهو وصف الذين لا يوصفون بسواه، حتى ولو تتوجوا بالزَّبَرْجَدِ ولبسوا أنعم اللباس، وركبوا أهنى المراكب.
هذه هي الأقسام التي ذكرها الحديث، ثم بعد ذلك بيَّن أحكامها.
فأما القسمان الأول والثاني فالإشارة إلى حُكمهما في قوله (فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ) أي علم في نفسه أولا، ثم أبدى علمه إلى الناس فانتفعوا به في تبيين الحلال من الحرام.
أما القسم الثالث فالإشارة إلى حكمة في قوله (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)، فظهر بهذا التشبيه في هذا الحديث فضل العلماء ومكانتهم وعموم نفعهم.
حقوق العلماء علينا
حقوق العلماء منها ما يُطالب به تلامذتهم، ومنها ما يطالب به عامة الناس، ونحن هنا نذكر بعض الحقوق المشتركة بين تلامذتهم وبين العامة.
• فمن حقوقهم علينا توقيرهم، واحترامهم، والتواضع لهم، وخفض الجناح لهم، يقول طاووس رحمه الله تعالى: من السنة أن يوقَّر العالم. وقد ثبت في سنن أبي داوود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال «إِنّ مِنْ إِجْلاَلِ الله إِكْرَامَ ذِي الشّيْبَةِ المُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ, وَإِكْرَامَ ذِي السّلْطَانِ المُقْسِطِ ». وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه ”الجامع“ تحت باب تعظيم المحدِّث وتجليده ذكر أثرا عن كعب الأنصار لا بأس بإرادة من باب الاستئناس به يقول كعب: ثلاثة نجد في الكتاب يحق علينا أن نُكرِمهم، وأنْ نشرِّفهم، وأن نوسِّع عليهم في المجالس: ذو السن، وذو السلطان بسلطانه، والحامل للكتاب. ومن هذا الباب قصة عبد الله بن عباس المشهور عندما أخذ بركاب بن ثابت فقال لزيد: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال: ابن عباس إنا هكذا نصنع بالعلماء. أو هكذا يفعل بالعلماء. وقد عُوتب الشافعي رحمه الله على تواضعه للعلماء فقال:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونهـا و لن تكرم النفس التي لا تهينهـا
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أيضا: أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. فحق العالم علينا أن نتواضع له وأن نجله ونقدره وأن نحترمه.
• ومن حقوق العلماء أيضا ولعله من أعظم الحقوق الدعاء لهم والاستغفار لهم، وقد تقدم الحديث في قوله (وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَاواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ) وثبت في سنن أبي داود(3) أو لعله الترمذي عن أبي أمامة ( أن النبي ( قال«إِنّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ الأرض حَتّى النّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتّى الْحُوتَ لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ» ومعنى (يُصَلّونَ) يعني يدعون، وثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال«وَمَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ, فإِنْ لَم تَجِدُوا ما تُكَافِئُوه بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ» وأي معروف أعظم علينا في هذه الدنيا من معروف العالم؛ الذي يدلنا على ما يسعدنا في الدين والدنيا.
• ومن حقوقهم أيضا ما جاء عن على ( أنه قال -كما ذكره ابن جماعة وقبله ابن عبد البر- أنه قال: من حق العالم عليك أن تُسَلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك إليه، ولا تغمز بعينك، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابَنَّ عنده أحد، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم لخدمته، ولا تسارّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا الكسل، وتشبع من طول صحبته؛ فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء. ولقد جمع ( في هذه الوصية ما فيه الكفاية.
فهذه جملة من حقوق العلماء علينا، وهي كثيرة، نسأل الله أن يوفقنا للعمل بها، فمتى ما عملنا بها مخلصين لله تعالى فقد قمنا بواجبنا تجاههم، وهيأْنا أيضا لهم الجو لإعطائنا مزيدا من علمهم ومعارفهم، ولذلك يقول ابن جُريْج: لم استخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به. فحسن المعاملة مع العالم تشرح صدره، فينعكس ذلك على إعطائه، فيعطى عطاء جيدا مثمرا، كما أن سوء معاملته أو عدم التأدب معه يؤثر على إخراجه للمعلومات، لذلك يقول الزهري: كان سلمةُ يماري ابن عباس فحرم بذلك علما كثيرا.
ـــــــــــــــــ
(1) الحديد:21، الجمعة:4.
(3) الترمذي كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة. ولم أجده في سنن أبي داوود.